عندما حصل تفجير/ انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس 2020 تشكل شبه إجماع وطني ينادي بالإسراع بكشف الحقيقة ومحاسبة المسؤولين والتعويض على المتضررين وإعادة ترميم المرفأ لإعادته إلى الوضع الطبيعي للعب الدور المناط به خدمة للاقتصاد الوطني اللبناني باعتباره أحد الأعمدة الأساسية لهذا الاقتصاد. وبهذا المنظور أحيل الحدث الجلل على المجلس العدلي وعيّن محقق عدلي بعد تجاذب وتبرّم وتردّد، محقق بدأ مهمته بعد أن وضع الملف بيديه.
بيد أن المحقق العدلي المعيّن ولسبب أو لآخر من دون الخوض بها لم يستطع إكمال المهمة بعد أن رفعت يده عن القضية بناء لطلب من بعض المدّعى عليهم، أدلى بعضهم بالارتياب المشروع فاستجيب له ما جعل الملف ينقل إلى قاض آخر عوّل الكثيرون عليه ليكون «الفارس» الذي يقدم بشجاعة ونزاهة وعلم قانوني وبموضوعية، يقدم على كشف الحقيقة وتقديمها إلى المحكمة ـ المجلس العدلي ـ لإدانة المرتكب وتبرئة البريء.
وكان منطقياً أن يقارب المحقق العدلي الجديد بعد أن وضع يده على الملف، أن يقارب الموضوع على مسارين اثنين يتخادمان من دون أن يحجب أحدهما الآخر حتى ولو تقدّم حيناً مسار على مسار، وأول المسارين كان المسار الميداني الموضوعي أي التفجير بذاته لمعرفة لماذا وكيف حصل الحدث ومن قام به، والمسار الثاني مسار تهيئة البيئة والظرف الذي قاد إلى حصول الحادث/ وهنا يدخل ما جانب الفعل المقصود أو غير القصدي، يدخل ما يسمّى بالتقصير الوظيفي والإهمال والخفة وعدم الاحتراز الذي أوصلنا إلى الكارثة.
أما في التعامل والسلوك الإعلامي فكان منتظراً من المحقق أن يميّز في التعاطي هذا مع الملف بين أمرين أو فئتين من المعلومات الأولى المعلومات التقنية التي تحدّد طبيعة التفجير وتجيب على سؤال كيف حصل وهل هو تفجير أو انفجار؟ لأنّ في هذا الأمر مصالح لمتضرّرين لا يمكن أن تنتظر، وأنّ الإعلان أو كشف الحقيقة هنا ليس من شأنه أن يؤثر في مسار التحقيق لا من قريب ولا من بعيد، وأقلّ ما يُقال فيه هنا أن تحديد طبيعة الحدث وكيفية حصوله يريح النفوس ويفتح الطريق أوسع أمام معالجات أخرى.
أما الفئة الثانية من المعلومات فهي المتصلة بالمسؤوليات والتسلسل التراكمي للأفعال والمساهمة المنتجة في الموضوع عملاً بنظريات مختلفة في العلم القانوني الجزائي سواء اعتمدت نظرية تعادل الأسباب أو السبب المنتج أو سواها، هذه الفئة من المعلومات ومن مجريات التحقيق يجب أن تكون خاضعة بشكل مطلق لمبدأ سرية التحقيق وبصرامة شديدة من دون أن يسمح بإعلان مباشر أو بتسريب غير مباشر لأيّ شيء منها لأنّ الإعلان أو التسريب من شأنه أن يضيع فرصاً ويعطي المرتكبين فرصاً للتملص من المسؤولية عن فعل أو تقصير.
بيد أن المحقق العدلي الأول ثم الثاني لم يقم بمثل هذا التمييز، وتكتم الأول ثم الثاني على الفئة من المعلومات التي كان يجب الإسراع في كشفها، وهي أمور موضوعية ميدانية تقنية يجب كشفها إراحة للنفوس وصيانة لحقوق المتضررين في علاقاتهم مع شركات التأمين، وإذا كان المحقق عجز عن حسم القضية وعجز عن تحديد ما حصل ولم يستطع أن يبيّن ما إذا كان في الأمر تفجير أو انفجار وما إذا كان حادثاً أم عملاً جرمياً بعد سنة من وقوع الحادث! فإنّ ذلك يشكل عيباً كبيراً في الأداء يعرف مضامينه وخطورته كلّ متابع خاصة من المختصين والخبراء.وفي كل الأحوال يبقى هذا التعتيم والغموض حول هذه النقطة بالذات محل تشكيك وريبة لا يمكن التفلت من مساوئها.
ومن جهة أخرى سجل وباستغراب كبير الكمّ من التسريب والكمّ من التداول الإعلامي لمجريات التحقيق إلى حدّ بات يعرف الشاهد أو المدّعى عليه بأنه مطلوب للمثول أمام المحقق العدلي مع التوقعات بمصيره عبر الإعلام وقبل أن يتمّ تبليغه شخصياً بالطرق القانونية المعروفة، ما أشاع جواً من الريبة والشك بحرص المحقق على الوصول إلى الحقيقة وليس التشهير بهذا وذاك.
وأخيراً كان أمر التعامل مع الأشخاص ذوي الأوضاع الخاصة والاختيار في نمط السلوك معهم بين وضعهم الخاص أو الإطار العام للتحقيق، وهنا كان الخطأ الآخر من حيث اعتماد الاستنسابية أيضاً، ففي شأن القضاة احترمت الخصوصية بينما لم تحترم تلك الخصوصية في ما خص النواب والوزراء ما فاقم الشعور بالريبة والشك أيضاً.
إنّ لبنان بشعبه وبكلّ ما يتعلق به بحاجة إلى كشف الحقيقة ومعرفة كيف حصلت الكارثة ومن هو المسؤول عنها لمساءلته فاعلاً كان أم متدخلاً أو محرّضاً أو متهيّئاً أو مقصّراً أو مسهّلاً أو مشجّعاً إلخ… وأنّ المتضرّرين بحاجة لمعرفة حقيقة ما حصل لفتح الباب أمامهم، فضلاً عما سبق، فتح الباب للحصول على تعويضاتهم من شركات التأمين التي تنام قريرة العين الآن بسبب حجب المحقق لطبيعة الحدث وكيفية حصوله، وأن العالم برمته ينتظر كشف الحقائق ليعيد الثقة بلبنان وينفتح مجدّداً للتعامل معه.
ولذلك فإننا نرى أن المحقق العدلي بقضية تفجير/ انفجار مرفأ بيروت أياً كان هذا المحقق، هو أمام مهمة وطنية كبرى تفرض له حقوقاً وتوجب عليه التزامات مقابلها من أجل الوصول إلى الحقيقة التي تعني من ذكرنا أعلاه جميعاً وعليه أن يجمع المسارات ويفرزها ثم يبحث من دون تسييس أو تركيب ملفات أو إغفال حقائق عليه وقبل أي شيء أن يبحث عن الإجابة على الأسئلة التالية:
١ـ من يملك المواد المتفجرة وكيف جهّزت بها السفينة ومن تولى إدارة حركة السفينة الناقلة من مرفأ التحميل إلى مرفأ التنزيل مروراً بمرافئ وسيطة إن وجدت.
٢ـ لماذا أنزلت البضاعة في مرفأ بيروت ومن سمح ببقائها منذ لحظة وصولها إلى لحظة انفجارها أو تفجيرها.٢
٣ـ كيف حصل الفعل وهل هو تفجير أو انفجار (تحديد ذلك وإعلانه للأسباب التي ذكرنا).٣
٤ـ تحديد دور الأشخاص جميع الأشخاص عن فعل أو تقصير أدى إلى الكارثة من دون تمييز أو انتقاء أو استنساب.٤
إنّ العلم والمنطق والعدالة تفرض مقاربة الأمر على الوجه المتقدّم ويجب أن يتذكر المحقق أن فعله أساسي وجوهري للوصول إلى الحقيقة وكشفها من أجل المحاسبة على أساسها ولا يمكن أن يتلطى خلف مقولة إنه «إن أخطأ فإن المحكمة تصوّب القرار»، فهذا غير دقيق إذ لو لم يكن فعله جوهرياً وهاماً ومن شأنه أن يسهّل عمل المحكمة ويفتح الطريق أمامها للوصول إلى الحقيقة القضائية المبرمة لما كانت أحيطت مهمته ووظيفته بهذا القدر من الأهمية، فالمحقق العدلي قد يكشف الحقيقة أو يضلل عنها وتضيع المسؤوليات، وأنّ الأمر بحاجة إلى وجود محقق يوحي بالثقة يحترم القواعد القانونية ويلتزم بها ويمتنع عن التسريب والإعلان في ما يجب كتمه ويعلن ما يجب نشره. وهنا نذكر الجميع بأنّ التيه بعيداً من الحقيقة حتى وفي مجال التحقيق من شأنه أن يهدر الوقت والحقوق ويرهق البريء ويكافئ المرتكب، وهو أمر ينبغي أن يكون مرفوضاً من أصله وإلا فإنّ العدالة ستكون الضحية الكبرى الأخرى بعد الضحايا والخسائر التي وقعت يوم نزول الكارثة.